• . . فإذا كانت السورة بجملتها إنما نزلت في غزوة بدر , وفي التعقيب عليها , فإننا ندرك من هذا طرفاً من منهج القرآن في تربية الجماعة المسلمة , وإعدادها لقيادة البشرية ; وجانباً من نظرة هذا الدين إلى حقيقة ما يجري في الأرض وفي حياة البشر ; مما يقوم منه تصور صحيح لهذه الحقيقة: لقد كانت هذه الغزوة هي أول واقعة كبيرة لقي فيها المسلمون أعداءهم من المشركين , فهزموهم تلك الهزيمة الكبيرة . .

    فأراد الله للعصبة المسلمة غير ما أرادت لنفسها من الغنيمة . . أراد لها أن تنفلت منها القافلة وأن تلقى عدوها من عتاة قريش الذين جمدوا الدعوة في مكة ; ومكروا مكرهم لقتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ; بعدما بلغوا بأصحابه الذين تابعوه على الهدى غاية التعذيب والتنكيل والأذى . .

    لقد أراد الله سبحانه أن تكون هذه الواقعة فرقاناً بين الحق والباطل ; وفرقاناً في خط سير التاريخ الإسلامي . ومن ثم فرقاناً في خط سير التاريخ الإنساني . . وأراد أن يظهر فيها الآماد البعيدة بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير لهم . وتدبير رب البشر لهم ولو كرهوه في أول الأمر . كما أراد أن تتعلم العصبة المؤمنة عوامل النصر وعوامل الهزيمة ; وتتلقاها مباشرة من يد ربها ووليها, وهي في ميدان المعركة وأمام مشاهدها.
    وتضمنت السورة التوجيهات الموحية إلى هذه المعاني الكبيرة ; وإلى هذه الحقائق الضخمة الخطيرة . كما تضمنت الكثير من دستور السلم والحرب , والغنائم والأسرى , والمعاهدات والمواثيق , وعوامل النصر وعوامل الهزيمة . كلها مصوغة في أسلوب التوجيه المربي , الذي ينشئ التصور الاعتقادي , ويجعله هو المحرك الأول والأكبر في النشاط الإنساني . . وهذه هي سمة المنهج القرآني في عرض الأحداث وتوجيهها .

    ثم إنها تضمنت مشاهد من الموقعة , ومشاهد من حركات النفوس قبل المعركة وفي ثناياها وبعدما . . مشاهد حية تعيد إلى المشاعر وقع المعركة وصورها وسماتها ; كأن قارئ القرآن يراها فيتجاوب معها تجاوباً عميقاً . واستطرد السياق أحياناً إلى صور من حياة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وحياة أصحابه في مكة , وهم قلة مستضعفون في الأرض , يخافون أن يتخطفهم الناس . ذلك ليذكروا فضل الله عليهم في ساعة النصر , ويعلموا أنهم إنما سينصرون بنصر الله , وبهذا الدين الذي آثروه على المال والحياة . وإلى صور من حياة المشركين قبل هجرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبعدها . وإلى أمثلة من مصائر الكافرين من قبل كدأب آل فرعون والذين من قبلهم , لتقرير سنة الله التي لا تتخلف في الانتصار لأوليائه والتدمير على أعدائه .

    فالدرس الأول في السورة , هو بيان حكم الله في الأنفال . . المغانم التي يغنمها المسلمون في جهادهم في سبيل الله . . بعد ما ثار بين أهل بدر من الجدال حول تقسيمها . فردهم الله إلى حكمه فيها ; كما ردهم إلى تقواه وطاعته وطاعة رسوله ; واستجاش في قلوبهم وجدان الإيمان والتقوى .

    ثم أخذ يذكرهم بما أرادوا لأنفسهم من العير والغنيمة , وما أراده الله لهم من النصر والعزة . وكيف سارت المعركة ، وهم قلة لا عدد لها ولا عدة ، وأعداؤهم كثرة في الرجال والعتاد. وكيف ثبتهم بمدد من الملائكة ، وبالمطر يستقون منه ويغتسلون ويثبت الأرض تحت أقدامهم فلا تسوخ في الرمال ، وبالنعاس يغشاهم فيسكب عليهم السكينة والاطمئنان. وكيف ألقى في قلوب أعدائهم الرعب وأنزل بهم شديد العقاب. ومن ثم يأمر المؤمنين أن يثبتوا في كل قتال ، مهما خيل إليهم في أول الأمر من قوة أعدائهم ، فإن اللّه هو الذي يقتل ، وهو الذي يرمي ، وهو الذي يدبر ، وإن هم إلا ستار لقدر اللّه وقدرته ، يفعل بهم ما يشاء ..

    سيد قطب


    votre commentaire


    Suivre le flux RSS des articles de cette rubrique
    Suivre le flux RSS des commentaires de cette rubrique